العالم المجاهد عبد الله بن العباس الجراري

 

للدكتور عباس الجراري

 

نشر دار الثقافة – الدار البيضاء – 1985

 

المقدمــة

 

بسم الله الرحمان الرحيم

 

        لو شئت أن أكتب عن عبد الله بن العباس الجراري – الوالد والأستاذ والصديق – لاحتاج الأمر مني إلى مجال تضيق عنه المجلدات مهما كانت ضخمة ومتعددة, ولكن ما إلى ذلك أو محاولته أقصد في هذا الكتاب, وإنما أقصد إلى تقديـم ترجـمة موجزة ومركزة تكون أشبه بالسيرة الببليوغرافية أو الفهرس الذي تتضح من خلاله أبرز معالم هذه السيرة وأكثر ملامحها تفردا وتميزا.

 

        وقد ارتأيت أن أدرج هذه الترجمة ضمن سلسلة ( شخصيات مغربية ), ولي إلى ذلك دوافع ثلاثة :

أولها :أن حياة صاحبها كانت غنية وحافلة بما يؤهلها لتكون في طليعة تلك الشخصيات, ويمكنني تلخيصها بأنها حياة مليئة بالجهاد العلمي والتعليمي والوطني المستمر أزيد من ستين عاما, تشهد بذلك مؤلفاته وتلاميذه وأعماله ومواقفـه في التضحية والكفاح وصيته الذائع الحميد وسيرته المستقيمة النزيهة الزاهدة.

 

ثانيها :أن الحاجة ماسة إلى التعريف به وبأمثاله من رجال المغرب الأفذاذ, في كتابات تقربهم إلى الأجيال, وتحدد الإطار العام الذي تجمع داخله أهم العناصر التي قد يتسنى لها فيما بعد من يفصل عنها القول ويوسع البحث. وفي اعتقادي أن مثل هذه السلسة مجال مناسب لتلك الكتابات.

 

ثالثها :أن الوفاء لمبدع ( شخصيات مغربية ) يقضي بأن يسلك – ولو في مرحلة أولى من الحديث عنه – ضمن مجموعتها التي وضع بها لبنة لها خصوصيتها في ميدان التأليف.

         

* * *

 

 

        وقد أتيح له أن ينشر منها ستة أعداد :

الأ و ل عن :    المحدث الحافظ أبي شعيب الدكالي

الثانـي عن :     الحافظ الواعية محمد المدني ابن الحسني

الثالـث عن :             شيخ الجماعة العلامة محمد المكي البطاوري الرباطي

الرابـع عن :     الشيخ المبدع محمد بن عبد السلام السايح

الخامس عن :        شيخ الجماعة العلامة أبي اسحاق التادلي الرباطي

السادس عن :   العلامة الرياضي محمد المهدي متجنوش

 

وكان بصدد إنجاز سفر سابع عن القـاضي أحمـد بنانـي ( تـ 1340 هـ 1921 م ) لولا أن الأجل وافاه. بل كان في تخطيطه لسلسة هذه الشخصيات قد سطر أسماء كثير من العلماء الذين عرفهم وتوافرت له مادة الكتابة عنهم, وفيهم فاسيون ومكناسيون وتطوانيون ومراكشيون وصحراويون, وغيرهم ممن ينتمون إلى مختلف المدن والأقاليم,  وممن تجاوزوا حدود هذه المدن والأقاليم بما كان لهم من دور فعال على صعيد المغرب, وربما في خارجه؛ إذ لم يكن ينوي قط أن يقتصر على علماء الرباط كما توهم الكثيرون , وإن كانت له في البدء بهم مبررات موضوعية مباشرة, لعل من بينها أنهم كانوا بحق من هذا الصنف من الرجال الذين كان لرسالتهم الفكريـة صـدى بعـيد, وأنهم جميعا – باستثناء التادلي الذي لم يدركه – من أبرز الشيوخ الذين لازمهم وتأثر بهم في هذا المجال أو ذاك, وأنهم بذلك كانوا أصحاب دين عليه ما كان ليتأخر عن تسديده, وفاء للعهد وحفاظا عليه.

 

وقـد حاولت – متعمدا – وأنا أدرج هذا الكتاب في سلسلة ( شخصيات مغربية ) أن أسلك في تحريره منهجا قريبا من إطاره وبعض أدواته الإجرائية إلى المنهج الذي اعتمده مبدعها في الأعداد التي أصدرها, من حيث أنه يهدف إلى التعريف بالشخصية في حياتها وما خلفته من إنتاج, في تركيز على الجوانب الأساسية, ومن خلال معطيات ملموسة يضمنها بعض الإجازات العلمية للمترجم له ويذيلها بما قيل في رثائه.

 

وهذا ما دفعني إلى أن أجعل الكتاب خمسة أقسام أتبعها بملحق :

الأول   :         عن نشأته وثقافته, وفيه أتحدث عن أسرته وولادته ودراسته وشيوخه وإجازاته وشهاداته.

الثاني   : عن نشاطه العلمي والوطني, وفيه أتناول عمله في التدريس والتفتيش ومواقفه السلفية والوطنية وإسهاماته الثقافية الموازية.

الثالث  : عن منزله، وفيه أقف عند علاقته مع أبنائه ومع أصدقائه وتلاميذه في ناديه وخزانة كتبه.

الرابع  :          عن مؤلفاته، وأتتبعها حسب الموضوعات, سواء ما كان منها مطبوعا أو مخطوطا أو في مرحلة الجمع.

الخامس :         عن وفاته, وأتعرض فيه للظروف التي فارق فيها الحياة.

ملحـق :           أدرج فيه ما قيل عنه في ذكراه السنوية الأولى (1).

 

ورغبة مني في محاداة المنهج المتبع في السلسلة, حاولت أن أضع – على غرار ما كان يفعل – عنوانـا يقدم فيـه الاسـم بتحلية تبرز أهم مميزات سيرته إن لم تختصرها جميعا, فلم أجد أنسب من " العالم  المجاهد " صفة أقرنها باسم " عبد الله بن العباس  الجراري"، لأن العلم والجهاد يمثلان المحورين اللذين دارت عليهما رسالته في الحياة, مع ما في مجالات تلك الرسالة من آفاق متعددة وأبعاد متنوعة.

 

وحتى أكون منسجما مع المنهج والهدف الذي يتوخاه, فقد جهدت كي أظل في منأى عن التأثرية والانطباعية, وهو منحى أعترف بأنه غير سهل بالنسبة لمؤلف يكتب عن شخص هو والده وأستاذه وصديقه, بكل ما في هذه الكلمات الثلاث من معان وقيم تجعل المؤلف في الحقيقة يكتب عن شخص هو نفسه, لا سيما وجراح الفراق لم تندمل بعد, وصدمة المصيبة حية تلتاع، لا يخففها غير الصبر والاحتساب.

 

وقد ساعدتني على ذلك طبيعة حياته الثرية التي ازدحمت فيها مكونات هذا الثراء ومقوماته ومظاهره، كما ساعدتني مصادر متوفرة أسعفتني فيما أنا بصدده، وأخص منها بالإشارة مذكراته التي جمع منها مجلدين وصل في آخرهما إلى سنة 1950، وكذا مؤلفاته ومدوناته وتقاييده العديدة، دون أن أنسى مرويات أصدقائه وتلاميذه, وما لمسته شخصيا وعشته طوال حقبة غير قصيرة منذ وعيت أنا الحياة إلى أن فارقها هو. وهي حقبة لم ينقطع فيها الاتصال الوثيق  بيننا، رغـم  السنوات العشر التي قضيتها خارج الوطن, والتي عشت خلالها كل صغيرة وكبيرة من حياته – كما عاش كل صغيرة وكبيرة من حياتي – عن طريق الرسائل المتلاحقة التي كنا نتبادلها دون انقطاع.

 

        على أني لن أوظف من هذه المصادر إلا أقل القليل, طالما أني ألتزم التركيز والإيجاز (2)؛ وسيبقى أكثر الكثير لمن يأتي من الدارسين والباحثين (3) الذين قد يسعون إلى تعميق هذا الجانب أو ذاك من حياة رجل وهب نفسه – كل نفسه – للدين والوطن والعلم, ومضى إلى جوار ربه بعد أن شق طريقا وعرا وضع على جنباته لهداية أبناء أمته معالم ومنارات لن تندرس آثار بصماته عليها مهما تعاقبت العصور وتوالت الأزمان.

 

                                     *  *  *                                              

                          

        وأود في آخر هذه المقدمة أن أوضح أمرا قد يتبادر إلى ذهن القارئ, وهو أني لا أنوي بهذا الكتاب إغلاق سلسلة (شخصيات مغربية), بل أرى على العكس من ذلك أنها ينبغي أن تظل مفتوحة لكل من أراد أن يغنيها وينشر تحت عنوانها, سواء على نحو منهج مبدعها أو على نحو منهج آخر.

 

        والله ولي التوفيق

                                                        الرباط 14 شعبان 1404

                                                        موافق 16 مايـو 1984

 

                                                            عباس الجراري

 

 

ـــــــــ

 

1)   أما الكلمات والقصائد التي قيلت في تأبينه الأول فقد نشرت في كتاب بعنوان (عهد الوفاء ). وزع بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لوفاته.

 

2)    بدافع التركيز والإيجاز, ورغبة في عدم التضخيم, لم أشأ كتابة هوامش للتعريف بالشخصيات العديدة الواردة أسماءها في مباحث هذا الكتاب, ولم أستثن منها إلا شيوخ الوالد وبعض مجيزيه ممن تيسر التعرف إلى ترجمتهم أو تاريخ وفاتهم, على أنه رحمه الله قد ترجم في كتبه لمعظم الأعلام الواردة, وخاصة في ( أعلام الفكر المعاصر بالعدوتين ) و ( التأليف ونهضته بالمغرب المعاصر ).

 

 

3)تجدر الإشارة إلى أن السيد جلال الدين العبودي كان أنجز بإشراف الأستاذ علال غازي بحثا لنيل الإجازة من كلية الآداب بالرباط سنة 79 – 80, عنوانه : " عبد الله الجراري المفكر المؤرخ ". كما تجدر الإشارة إلى أن السيد مصطفى الجوهري سجل تحت إشرافي في مايو 1984 رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا من نفس الكلية في موضوع " عبد الله بن العباس الجراري الأديب ".